قال الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي حفظه الله :
يكره للصائم أن يجمع ريقه ،
الريق : لعاب أوجده الله في الفم يكون بأصله لعاباً قوي المادة أو يتحلل مع حركة الفم ،
وهذا اللعاب أوجده الله-U- لحكمة ، وإذا أراد الإنسان أن ينظر إلى عظيم نعمة الله عليه بهذا اللعاب فلينظر إلى ساعته في شدة الظهيرة وقد جف حلقه من لعابه كيف يكون حاله ، فلو أن الله خلقه على هذه الصفة لوجد من المشقة والعناء ما لا يخفى ، ولكنه أحسن كل شيء خلقه-I- وتبارك وهو أحسن الخالقين ، فخلقه على هذه الصفة فجعل اللعاب في فمه يمكنه من الكلام ويدفع عنه مشقة يبس حلقه وصعوبة كلامه ، ولذلك تجد من جف لعابه أو قل - خاصة في أحوال الصيام وشدة الظمأ - يصعب عليه الحديث ويصعب عليه الكلام فهذا اللعاب
والريق له حالتان :
الحالة الأولى :
أن يتركه المكلف على خلقة الله-U- فيرتفق به في حال يُبس حلقه أو يُبس فمه فيجريه على المألوف المعتاد المعروف وهذه الحالة لا إشكال فيها بإجماع العلماء أن اللعاب يعتبر غير مؤثر في الصيام ولو بلعه الإنسان ؛ لأنه مما يشق التحرز عنه ، ولذلك يمثل العلماء له بما يشق التحرز عنه في الصيام واغتفروا في حكمه اللعاب اليسير ، الذي يكون من فضلة الطعام إذا شق عنه التحرز في الصلاة وهكذا ما يكون بين الأسنان في الصلاة اغتفروه ووظر اللبن الذي يكون من دسامة مادة اللبن بين الأسنان اغتفروه في الصلاة ، وأما في الصيام فقالوا : إنه إذا بزغ الفجر وانتهى وقت السحور فإنه يتمضمض إن بقيت مادة الطعام في فمه لأن اللعاب متصل بممنوع وهو وإن كان لعاباً في أصله لكنه خرج عن الأصل بامتزاجه مع المادة التي هي مادة الطعام ، وعلى هذا قالوا : إن اللعاب في هذه الحالة يجب إزالته إما ببصاق أو بغسل الفم بالمضمضة ، ولذلك ورد عنه-عليه الصلاة والسلام- تمضمضه قبل الصلاة من وظر اللبن ودسومته .
الحالة الثانية للريق :
أن يجمعه فيبلعه وهو صائم فهذا الجمع للريق يعتبر متردداً بين أصلين ، يحتاج تقرير هذين الأصلين إلى أمر مهم لابد من بيانه ، حاصله أن فم الإنسان يعتبر من خارج الجسد ولا يعتبر من داخل الجسد .
وتوضيح ذلك : أنك في الصيام تحتاج أن تفرق بين خارج البدن وداخل البدن حتى تستطيع أن تفتي في مسائل الصيام ،
وهذا أمر مهم لطالب العلم وللعالم ، ولا يستطيع أن يفتي في مسائل الفطر حتى يقرر ما هو الذي من خارج البدن وما هو الذي من داخله الذي إذا وصل إليه الغريب حكم بفطر الصائم بسبب ذلك ، فالفم دلت الأدلة على أنه من خارج ، إذا قلت : إنه من خارج فأي شيء يصل إليه من المفطرات لا يضر ولا يؤثر ما لم يتجاوز الحد المعتبر شرعاً وهي اللهاة ، واللهاة هي اللحمة المتدلية عند بداية الحلق ، فهي فاصل بين داخل البدن وبين خارج البدن ، وخارج البدن هو الفم ، فما كان دون اللهاة فهو من داخل ،
وبناءً على ذلك لو استقاء فخرج القيء إلى فمه ورد ولو يسيراً من القيء إلى جوفه ورده إلى ما وراء اللهاة فقد أفطر وهذا بإجماع العلماء أنه إذا رد مادة القيء إلى داخل البدن بعد وصولها إلى الفم أنه يفطر لأنه بمجرد وصولها إلى الفم خرجت عن البدن .
إذاً تثبت أن هناك داخل وخارج ، الداخل ما دون اللهاة من جهة الجوف ، والخارج ما قبل اللهاة من جهة الفم ، على هذا فالريق إذا كان موجوداً في الفم فليس عندنا إشكال حتى ولو جمعه ثم أداره في فمه ثم بصقه ، لا إشكال لأن الأمر كله في خارج البدن ، لكن الإشكال لو جمع هذا الريق ثم ابتلعه بعد ذلك فهذا الفعل يتردد بين وجهين أحدهما يقتضي الحكم بالفطر والثاني يقتضي عدم الحكم بالفطر ، فأما كونه مقتضياً للفطر فهم يقولون هذا اللعاب مادة متعلقة بخارج البدن ، وكونها تنـزل يسيراً يسيراً ،
وكون الإنسان يبلع ريقه يسيراً يسيراً قالوا : هذا على المعروف المألوف الذي يشق التحرز عنه ، فرخص الشرع فيه ،
لكن كونه يجمع باختياره وقدرته وتمكنه ثم يبلع كما لو أفضل الجسم فضلة ثم بلعها ، فهم يقولون اللعاب فضلة الجسم وهذا بالإجماع أنه فضلة من الجسم فكما أن فضلة الجسم (كالقيء) إذا خرجت إلى الفم ثم ردت أنه تفطر ، قالوا : اللعاب إذا جُمِعَ خرج عن الرخصة ، فالرخصة فيه أن يكون متحللاً لترطيب الفم لكن إذا جمعه فإنه يقصد ما يقصده الشارب أو يقصده من يريد بَلَّ حلقه ، فخرج عن كونه مادة للفم إلى كونه مادة للحلق فأفطر من هذا الوجه ، قالوا : أشبه ما لو إذا خرج القيء ثم رده إلى داخل البدن ،
والوجه الثاني الذي يقتضي أنه لا يفطر أن تقول : هذا اللعاب مادة تسامح الشرع فيها ، والإجماع منعقد على أن اللعاب الذي في داخل البدن لو بلعه الإنسان قليلاً قليلاً أنه لا يفطر ، فلا فرق عندي بين أن يبلعه دفعة واحدة وبين أن يبلعه شيئاً فشيئاً ،
إذاً عندك وجهان أحدهما يقتضي الحظر والحكم بالفطر والثاني يقتضي الإباحة وأنه لا يوجب فطر صاحبه ، القاعدة عند بعض العلماء : " أنه إذا تردد الفعل أو القول بين مأذون به شرعاً وبين غير مأذون به شرعاً وهو المحرم - وأصبح بينهما فيه شبه من هذا وشبه من هذا - أنه يكره " ،
هذا ضابط للمكروه عند بعض العلماء ، ولذلك مثلاً يمثلون بإسبال الإزار قال-r- : (( ما أسفل الكعبين ففي النار )) وأجاز الأزرة إذا كانت فوق الكعبين ، وقد ثبت عنه أنه قال : (( أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه )) فإذا ارتفع الإزار عن الكعبين فالإجماع على حله ، وإذا نزل على الكعبين فإنه يعتبر داخلاً في قوله : (( ما أسفل الكعبين ففي النار )) لو أنه وصل إلى الكعبين ولم يجاوز ولم يرتفع عنهما وكان محاذياً للكعبين فليس عندك نص يقتضي التحريم وليس عندك نص يقتضي الإباحة ، فإذا جئت تقول : أبيحه أجابك المجيب بأن الشرع أباح ما فوق الكعبين ، وإذا قلت أحرمه أجابك المعترض بأن الذي حرمه الشرع ما أسفل الكعبين قالوا فيصبح بين الحظر والإباحة فهو مكروه فيسكت عنه الشرع لتردده بين الحظر والإباحة فيقولون : هو مكروه ، فإذاً كأن المكروه يتردد بين الحلال والحرام ويتردد بين الحظر والإباحة فجمع الريق فيه وجه لأن تجيزه وفيه وجه لأن تمنعه فإن قلت الشرع رخص في الريق لمكان مشقة التحرز والتوقي فإن الريق المجموع لا يشق التحرز عنه لأنه بإمكانه أن يبصقه قالوا : فحينئذٍ كأنه قصد الإخلال فيعتبر هذا الوجه يقتضي الحظر ، وتقول : الريق مأذون به شرعاً فيستوي أن يكون مجموعاً أو متفرقاً فهذا الوجه يقتضي الإباحة فأصبح جمع الريق مكروهاً من هذا الوجه ، فهذا هو وجه كون العلماء-رحمة الله عليهم- ينصون على كراهية مثل هذه الأمور ، ويستشكل بعض طلاب العلم كيف يحكم بالكراهة بما لا نص فيه ، وهذا مسلك يدل على ورع السلف والأئمة-رحمة الله عليهم- هذا مسلك ، ولذلك لما تكلم العلماء ما هو ضابط المكروه كان قول بعض العلماء طبعاً أن يرد النص بالنهي غير الجازم هذا لا إشكال فيه .
لكن هناك صور وهي المتردد بين الحظر والإباحة يؤكدون هذا أن الشرع قصد الترك ، ولذلك قال-r- : (( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه )) فالفقيه لا يستطيع أن يقول هذا حرام وإذا قال : هو حلال وجد في نفسه الشبهة فتردد .
ولذلك إذا قال لك قائل : أجمع الريق وأبلعه ستجد في نفسك الشبهة لكن ما تستطيع أن تقول : إنه حرام ، فالبر طمأنينة ، قالوا فوجود هذه الشبهة كونه يجمع الريق كأنك تفهم منه أنه في حكم من يُدخل من خارج البدن الغريب عنه ، لأن الذي ليس بغريب أن يترك اللعاب على طبيعته ، لكن كونه يجمع وكونه يزدرد قالوا هذا يقتضي الشبهة
ومن هنا يقوى القول بكون جمع الريق من مكروهات الصيام .
بلع الريق له ثلاثة أحوال :
الحالة المعروفة المألوفة لا إشكال فيها لكن هناك حالتان يذكرها العلماء وهي أن يجمع الريق من داخل أي من داخل الفم .
والحالة الثانية : أن يخرج هذا المجُتْمَعِ إلى خارج الفم ، فأما إذا كان الريق في داخل الفم وجمعه وبلعه وازدرده فمثل ما ذكرنا أنه مكروه ، لكن لو جمع الريق فأخرجه بلسانه أو جاوز شفتيه ثم رده فإنه يفطر في قول جماهير أهل العلم-رحمة الله عليهم- ، لأنه إذا أخرجه عن الفم فإنه حينئذٍ يخرج عن الرخصة وجهاً واحداً عند أهل العلم فيعتبر خارجاً عن اللعاب المرخص به شرعاً ، لأن الذي يشق التحرز عنه ما كان في داخل الفم ، أما إذا خرج قالوا : إنه يفطر ، وعلى هذا يقولون : إنه إذا خرج الريق من خارج الفم فإنه يفطر .
ما فائدة أن العلماء-رحمة الله عليهم- يقولون : الريق يجمع من داخل أو يجمع من خارج ؟
قد يقول قائل : إنه من القبيح على الإنسان أن يخرج الريق من فمه ثم يرده ، وهذه المسائل يذكرها العلماء لأمور قد يحتاج إليها الفقهاء ، فمثلاً في زماننا قد توجد أحوال في بعض الأحيان بعض الآلات قد تقوم بشفط ما في الفم وإعادته إليه وتكريره عليه ، فإذا كان الشفط يكون في داخل الفم كما يكون في بعض من يكون في أجهزة الإنعاش يحتاج إلى وجود بعض المواد التي تكون في فمه فهذا الشفط والإعادة إذا كانت الآلة التي تشفط تشفط المادة إلى خارج الفم وتجاوزه فيرد فيه الكلام ، وإن كانت في داخل الفم ولا تجاوزه فلا إشكال فيها ،
فالمقصود أن مسألة جمع الريق لا تخلو من هاتين الصورتين ، إن خرج الريق وجاوز حد الشفتين أفطر وجهاً واحداً وإن لم يجاوزه فإنه يرد فيه ما ذكرناه من الحكم بالكراهة ولا يحكم بفطر صاحبه